
عندما كنا صغارا …. كنا نتصنع – عن عمد – أننا نبكي , وغفلنا أن براءة الطفولة تفضح وجوهنا النضرة الرقيقة , فالبراءة آنذاك كانت المحطة التي لا تتوقف عندها الأماني الطيبة ، تستمدّ قوتها من عمق المشاعر المباركة التي احتوتها قلوب الطيبين , والآن صرنا نتصنع – عن عمدٍ أيضا – ابتسامة تبدو وكأنها مشرقة مع أنها تخفي ورائها حزين دفين يعلمه من ينظر في عيوننا المكحلة بالسواد .
عندما كنا صغارا …. ما عرفنا الغل يوما , ما علمنا للغدر معني , ما حلمنا بالمناصب والتفاخر والتعالي , كان حلم الطفولة سهل قد تداويه ابتسامه , وعندما هرِمنا صرنا نفتش بين تلال الغدر عن النقاء , ونتمنى أن نري أصحاب المعالي والمناصب بالتواضع والوقار, نفتش في الزمن الماضي عن رحيق الأيام , وطعم البيوت العامرة بالود والعطاء , ننبش بلا كلل عن البركة ودفئ المشاعر , عن الاحترام للكبير ولو كان يكبرنا بأيام , عن المشاركة في الحزن والمسرات , ففي الحزن كنا لا نعرف من المكلوم , وفي الفرح كلنا سعداء ؛ لأن الوجوه كانت لا ترتدي قناع الزيف والغل والحسد . حتى اكتشفنا مع الأيام ونضج العمر أن من نحبّهم بشدّة يختارهم الغياب بدقّة وعناية .
عندما كنا صغارا …. كنا نحب الجميع , ونرتاح مع الجميع , ونفرح مع الجميع , كنا نجري بأقصي سرعة ثم نفتح زراعنا ونتخيل أننا نطير , كنا في سماء هواؤها بلسم لصدورنا , ورحيقها أجمل ألف مرة من رزاز أغلي العطور صاحبة الماركات باهظة السمن , كنا لا ندري ما بين أيادينا من كنوز , أهمها وأثمنها كنز راحة البال وصفاء الضمير , كنا لا نخاف المستقبل , ولماذا نخاف وهناك أيادي كثيرة إن وقعنا كانت السند والملاذ ؟ وإن تعثرنا فهناك من يفسح لنا الطريق ويفرش لنا الأرض وردا كي نسير عليها وكأننا ملوك الأرض .
ولما كبرنا تعثرنا ولم نجد تلك الأيادي الحانية الرقيقة , لم نجد الملاذ والسند , لم نعد نري الحب الدافئ والصدر الرحيب . ولم نعد ملوكا متوجه وإنما صرنا عبيدا لمشاكل الحياة وهم لقمة العيش الصعبة , وعلينا أن نواجه الصعاب والتحديات فإما أن نكون أو لا نكون … أصبحنا نبحث عن السعادة فلا نجدها إلا في رحيق الزمن الماضي الجميل . نغلق أعيننا ونسرح بخيالنا إلي مرحلة الطفولة النقية الصافية , ونلعن كارهين أننا كبرنا , وننكر أننا نضجنا لنتحسر علي ماضينا العريق فنقول ألا ليت الزمان يعود يوما بكل معانيه الرقيقة وطعمه الذي نشتاق إليه . عندما كنا صغارا … كانَ نَبضُ القلب بِكرا لا يحوي هما ولا حقدا , ما حَوى إلا الأماني الوردية ما حوي همًّا وفِكرا , … فسلام على من أبعدتهم الأيام وسلام على من افتقدناهم منذ الطفولة حد الاشتياق وسلام على من مروا بنا فتركوا ذكرياتهم، وأشياءهم ورحلوا، فما أوصدوا وراءهم بابا ، ولا التفتوا ، ولا لوحوا لنا بالوداع فظل باب الذكريات منذ الطفولة مفتوحا على مصراعيه سلام علي الحب والود والأمان سلام علينا جمبعا عندما كنا صغارا .