عن الخذلان الجميل … أتحدث …!! يكتبها الدكتور عصام كمال المصرى

تتالي الخذلان مؤلم حين يشبعنا حد الوجع المبرح , حد الوصول إلي اللامبالاة من كل شيء , وأي شيء , مع تتالي الخذلان تأتي آثاره وتبعاته الوخيمة من الحسرات والانكسارات , لتكون أشد ألما ، وأكثر إرهاقا علي الجسد والروح , ومما يؤسف له أن الخذلان لا يأتي إلا بصحبة رفيقه الأشد منه قسوة ووجع , وكأنهما توأمان , حين يأتي مصحوبا بالكآبة فيجثم على صدورنا بقسوة ، ويسترخي في ممرات أرواحنا , وغرف نبض عروقنا , وينتشر بدروب الشرايين في أجسادنا , فيصل إلي نبضات القلب فتقلقه ويرتجف خوفا أن يتوقف , حين يرسم الليل وعتمته ألف صورة للخذلان تبدأ حدودها من عيوننا حين تدمع , وتنتهي بعيوننا حين تفرح وتلمع , فالعين تفضح ما نحاول أن نخفيه مهما حاولنا فرحا أو حزنا , مع الخذلان نذرف الدموع دون إرادة منا تكون مصحوبة بشهقات النفس والعويل الصامت , والضجيج الأخرس بلا صوت , وكأن الروح ستصعد إلي بارئها من شدة الألم . لا تتعجب صديقي من قولي ( العويل الصامت ) ( والضجيج الأخرس ) فليس كل خذلان يُحكى ، لأن بعضه تتعثر له الحناجر , ويعجز عن وصفة اللسان لمرارته . خاصة عندما يموت في عينيك إنسان وهو ما زال علي قيد الحياة .
عزيزي القارئ … لا تحكم علي كلماتي السابقة بأنها عن خذلان الحبيب لمن أحب , فهذا الصنف من الخذلان نسمع عنه ونراه كل يوم , وهؤلاء في الحقيقة لا يشغلني الحديث عنهم ؛ لأنهم لا يستحقون منا حتى ثمن الحبر والورق , لا يستحقون الندم فليس ببعدهم ألم , وإنما قربهم هو الشر والألم المبرح , يحضرني هنا قول فضيلة الإمام محمد متولي الشعرواى : ” ﻻ تحزن عندما ﻳﻬﺠﺮﻙ ﺃﻭ ﻳﺘﻐﻴﺮ عليك البعض , ﺭﺑﻤﺎ ﻫﻲ دعوتك ﺫﺍﺕ ﻟﻴلة : ” ﻭﺍﺻﺮﻑ ﻋﻨﻲ ﺷﺮ ﻣﺎ قضيت ” إنهم لا يستحقون أن نمنحهم حلم الطيران معنا ، فأول ما يفعلونه هو قص أجنحتنا وكسرنا علناً عندما تقوي أجنحتهم علي الطيران , ليس مقصدي أبدا خذلان الحبيب , فهو أقلهم قسوة ووحشية , ولا يسقطنا أبدا , نعم قد تأتي الرياح العاتية , ولكن جذورنا الراسخة في الأرض الممتدة بلا حدود , نتشبث بها لأننا مؤمنون بأمر الله , فلسنا كقوم عاد الذين أهلكوا بريح صَرْصَرٍ عَاتِيَة لأنهم ما وثقوا بأمر الله وقدرة , جذورنا راسخة حتى وإن أتت الزلازل القوية فإنها تهزنا ولكن لا نميل ولا نسقط , وإن سقطنا تبقي الجذور بالأرض متعمقة , وإنما حديثي عن خذلان من يغمض عينيه ويصم أذنيه , ويغل لسانه بالصمت عن كلمة الحق في المواقف الفارقة , ليكتفي بكلمات معسولة عند الحاجة إليه بأنه الداعم والمساند مع أن لسانه يتلعثم دون أن يدري ..!! وكأن تلعثمه يؤكد لنا يقينا أنه كذاب أشر ,,, وما عاد يخدعنا الحديث المنمق ولا حلاوة الكلمة ؛ هذا الصنف من البشر مهما ارتدي قناع التقوى والصلاح والإصلاح لابد وأن يسقط عنه قناعه المزيف يوما ما , إننا ببساطة شديدة لا نحتاج في المواقف الفارقة للقول , وإنما للفعل علي أرض الواقع مهما كانت بساطته , حتى وإن باءت المحاولة بالفشل لكنه حاول قدر المستطاع واجتهد .. !! وصنف آخر من كاتم كلمة الحق يختار الحياد ولا يدري أن البقاء علي الحياد خذلان للحق ورضي للباطل ..!! فالبقاء على الحياد لا يليق بإنسانية الإنسان وقيمته .
عزيزي القارئ … إن كنت تابعت المقال إلي هنا فلعلك تسألني : أين الخذلان الجميل الذي وعدت أن تتحدث عنه ؟!! وأجيبك قائلا … إن كل صور الخذلان السابقة بمرها وإنكسارها , ألمها وفقدها , بكل معانيها التي لا يمكن وصفها , إنما تُفضي بنا حتما لقطع حبال التعلق بمن لا يستحق من البشر , والتذلل علي أعتاب بابهم المغلق الذي لن يُفتح ، فتجعلنا لا ننتظر السند إلا من يد الله الحنونة التي تمتد لعباده بلطف , والذي يأتي لعبده مهرولا إن آتاه يمشي , وذلك لأنه الله العظيم في قدره وشأنه , الخذلان يكون جميلا حين يجعل أعيننا المتعبة تشخص بالبصر إلي رب السماء فقط , فلا نسأل أحدا سواه , نلجأ لله وحده المرمم لكل كسر , الجابر لكل خاطر , وذلك لعمري أعظم عِوض من الرحمن الرحيم ، أن تنفتح الأبواب , وتتبين الدروب بين القلب والرب مباشرة , فلا يكون هناك طرف ثالث , علاقة مباشرة بين المكسور وجابر الكسر , بين المظلوم والقاضي الأعلى القادر علي رد المظالم في الوقت الذي فيه يشاء , فاسند بظهرك المائل على باب صراطه المستقيم , واترك ما أهمّك في يد الغفور الرحيم , والسلام على من استودع الله نبض قلبه , وفكره الشارد , سلاما على الذين يزهرون القلوب إذا نزلوا بها وكأنهم في بقاع القلب أمطار , سلاما على من رأوا العين تكاد أن تبكي ، فأضحكوها بتوددهم . سلاما على المحبين ، سلاما على الأوفياء والصابرين , سلاما على بسطاء الروح , أتقياء القلوب سليمي النوايا , المتعطرون بالطيبة والصدق والوضوح , أصحاب الوجه الواحد والمبدأ الواحد , الذين لا يعرفون للنفاق والغدر والخداع سبيلا , سلاما وألف سلام معطر بالشكر الجميل علي الخذلان الجميل , الذي به نرجع إلي الله ونسأله عما داخل صدورنا المكبوتة بالألم والوجع .. !!